ثار المصريون وضحوا على مدى ثلاث سنوات للقضاء على ميراث عقود طويلة من الاستبداد والاستعباد والتهميش وخرجوا حاملين شعارات تطالب بحقوقهم، لا السياسية والمدنية فحسب بل الاجتماعية والاقتصادية كذلك، ومع سقوط رموز متعاقبة للظلم والطغيان والفشل انتقلت البلاد إلى مرحلة جديدة وإلى عملية صياغة دستور جديد من المفترض أن يعبر عن آمال جماهير المصريين التي أصبحت حقوقها المهدرة واقعًا يوميًّا يعيشه الجميع. ويأتي على رأس هذه الآمال أن ينص الدستور صراحة وبكل قوة على جملة من الحقوق الاجتماعية والسياسية والمدنية الأساسية التي لا سبيل للنكوص عنها ولا إمكانية لتخاذل الدولة عن الوفاء بها وحمايتها وحفظها وتمكين المواطنين من استحقاقها.
الالتزامات الدولية حول الحق في الصحة
ويستند النهج الحقوقي - الذى ينبغي أن يعبر عنه الدستور المزمع كتابته - إلى الاعتقاد بأن كل فرد أيًّا كان يتمتع بحقوقه باعتباره إنسانًا وكل حق يتبعه التزام من جانب الحكومة باحترامه وتعزيزه وتلبيته. وتستند الطبيعة القانونية والمعيارية للحقوق وما يتصل بها من التزامات حكومية على المعاهدات الدولية والإقليمية لحقوق الإنسان إلى موقف أخلاقيّ وفلسفيّ يدور حول كرامة الإنسان بحكم وجوب تمتعه بالتحرر من الفقر ومن الخوف. حيث لا يمكن إدراك الغاية القصوى لضمان احترام كرامة الفرد دون تمتعه بجميع حقوقه، ويأتي في المقدمة ذلك الحق في الصحة الذى نُصَّ عليه في دستور منظمة الصحة العالمية منذ العام 1946، مرورًا بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عام 1948 (المادة 25) ثم العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتي صدَّقت عليه مصر واعتبرته جزءًا من قوانينها منذ العام 1982 الذي ينص على :
"حق كل فرد في التمتع بأعلى مستوى ممكن من الصحة، وتدعو لإتاحة ما يخفض وفيات الأطفال ويوفر لهم بيئة صحية للنمو وتحسن كافة جوانب السلامة والنظافة العامة والبيئة ومكافحة الأوبئة والأمراض المتوطنة والناجمة عن وظائف معينة. وكذلك توجب على الدول الأطراف توفير الظروف المناسبة لإتاحة كافة الخدمات الطبية والرعاية في حالة المرض".
وقد عرَّف المقرر الخاص للحق في الصحة بمفوضية حقوق الإنسان (أناند جروفر) الحق في الصحة بأنه:
"لا يعنى مجرد أن يكون الفرد موفور الصحة إنما يتطلب تنفيذ الحق من الحكومات والسلطات العمومية في وضع سياسات وتنفيذ خطط عمل من شأنها أن تؤدى إلى إتاحة الرعاية الصحية وتوفير سبل الحصول عليها للجميع في أقصر وقت ممكن ".
كما أشار التعليق العام رقم 14 إلى أن الحق في الصحة هو حق جامع لا يشمل توفير الرعاية الصحية فحسب وإنما يشمل توفير العوامل المحددة الأساسية للصحة مثل المياه الصالحة للشرب والصرف الصحي والغذاء المأمون والسكن والظروف المهنية الجيدة.
الحق في الصحة في الدساتير المصرية
وعلى الرغم من أن دستور 1971 قد نص في مادتيه 16 و17 على كفالة الدولة للخدمات الثقافية والاجتماعية والصحية وكذا خدمات التأمين الاجتماعي والصحي ومعاشات العجز عن العمل والبطالة والشيخوخة للمواطنين جميعًا وذلك وفقًا للقانون، إلا أن هذه النصوص وفقًا للالتزامات الواردة في المواثيق الدولية لا تسمو إلى ما يصبو إليه الشعب المصري بعد ثورة يناير من إرادة التغيير لتلبية شعارات الثورة، فتلك النصوص شديدة العمومية والإبهام من حيث عدم اشتمالها على ما يضمن تنفيذ الالتزام بمحتوى الحق في الصحة والحماية الاجتماعية. بل إن هاتين المادتين في حد ذاتهما لا تضمنان الحق في الصحة والذي يظل غير محقق رغم مرور أربعين سنة على وضع هذه المواد.
فالتأمين الصحي لا يغطي سوى 50% من المصريين عمومًا بينما يظل الأكثر احتياجًا وفقرًا مهمشًّا دون أدنى حماية أو تأمين ضد المخاطر الصحية. أما من يغطيهم التأمين الصحي ونظرًا لقلة جودة الخدمات المقدمة من خلاله لا يلجأ له المؤمن عليهم إلا في 8% من الحالات.
ولا يزال الجزء الغالب من الإنفاق الكلى على الصحة يخرج من جيوب المواطنين مباشرة بنسبة تفوق 70% من إجمالي الإنفاق بما يعنى أن عبء العلاج يقع فعليًّا على المواطنين بينما لا تفي نظم التأمين العام شيئًا يذكر مما يتكبدونه. وليس بخافٍ أن المؤشرات الصحية في مصر تُظهر انحيازًا شديدًا على حساب الأكثر فقرًا حيث يستفيد الأغنياء نسبيًّا من غالب الخدمات العامة.
ثم يأتي دستور 2012 بمادة جديدة خاصة بالصحة تنص على:
" تلتزم الدولة بتوفير الرعاية الصحية لكل مواطن وتخصص لها نسبة كافية من الموازنة العامة للدولة. وتكفل الدولة تقديم خدمات التأمين الصحي لجميع المواطنين ويكون ذلك بالمجان لغير القادرين. ويحظر الامتناع عن تقديم العلاج بأشكاله المختلفة لكل إنسان في حالات الطوارئ أو الخطر على الحياة. وتخضع جميع المنشآت الصحية لإشراف الدولة ورقابتها وفقًا للقانون ".
فنجد أنه رغم التقدم الملحوظ عما سبق من دساتير في مصر إلا إن هذه المادة المختصرة تختصر الحق في الصحة في مجرد تقديم خدمات الرعاية الصحية ولا تتعرض لعدم التمييز بين المواطنين، كذلك فهي لا تقدم لهم غطاءً تأمينيًّا بأي صورة يحميهم من مخاطر المرض ومن العبء المادي والاقتصادي الناتج عنه. إنها لا تتطرق لدور الدولة في التخطيط والتحقيق التدريجي والمدروس للتغطية الصحية العادلة للمواطنين. كما أنها لا تتعرض لحقوق المرضى أو مسؤولية الدولة في احترام أو حماية أو تحقيق الحق في الصحة للجميع.
فالخلاصة أن النصوص الدستورية المشار إليها قد عجزت عن كفالة حقوق ذات مغزى ومضمون للرعاية الصحية، وقد انعكس ذلك على استمرار انتهاك الحق في الصحة للجميع وبصورة أساسية للأكثر فقرًا وتهميشًا. علاوة على ذلك فإن السياسات والبرامج الخاصة بالصحة العامة تصاغ دون اعتبار للمحددات الاجتماعية للصحة ودون إيلاء الاهتمام الكافي بمبدأ عدم التمييز ومبادئ حقوق الإنسان الأخرى. ومن هنا فإن تناول ما يتعلق بالحق في الصحة في دستور ما بعد الثورة يجب أن يترجم بالنص صراحة على تفعيل هذا الحق ويضمن حفظه وحمايته والدفاع عنه والوفاء به من قِبَل الدولة كما فعلت دساتير عديد من البلدان المشابهه لنا شمالًا وجنوبًا وشرقًا وغربًا لتأكيد احترامها لمنظومة حقوق الإنسان والسعي لجعلها أمرًا واقعًا للمستقبل.
العمل على صياغة توافقية للصحة في الدستور الجديد
لذا فقد قامت المبادرة المصرية للحقوق الشخصية بالعمل طوال شهرين مع مجموعات متنوعة من مختلف القوى المدنية والحقوقية وخبراء الصحة العامة واقتصاديات الصحة والقانون ولجان الصحة بالأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني والعديد من الشخصيات العامة وممثلي المنتفعين ومقدمي الخدمة من مختلف القطاعات، بهدف وضع مقترح لمواد دستورية خاصة بالحق في الصحة تُحقق ما يجب أن يكون عليه وضع الحق في الصحة في دستور تقدمي يمهد لمستقبل أفضل لنا كمواطنين ولأبنائنا وأحفادنا من بعدنا.
يأتي هذا مع التشديد على أنه رغم أن الوفاء بهذه الحقوق للمواطنين يتجاوز النص عليها في الدستور إلا أن هذا لا يعني أن الدستور وثيقة لا صلة لها بالأوضاع الفعلية على الأرض. إذ إن وجود نصوص واضحة سيرتب مراكز قانونية وسياسية للمواطنين تمكّنهم فيما بعد من المطالبة بحقوقهم والضغط من أجل انتزاعها، وهو ما تحقق بالفعل في التجارب التي سبقت مصرَ بين البلدان النامية والتي لم تعد تنظر إلى الدستور باعتباره وثيقة تعكس توازنات القوة ضيقة الأفق وقصيرة الأمد وإنما باعتباره وثيقة تؤسس للجماعة الوطنية وتبين توزيع الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لكافة المواطنين. ولا شك فإن مثل هذه النظرة هي الأقرب للحالة المصرية التي تشهد تحولًا اجتماعيًّا وسياسيًّا عميقًا.
ففي كتابة هذه المواد التوافقية والتي تصف الحد الأدنى من الحقوق والالتزامات، ورغم مراعاة عدم التعرض للتفاصيل أو لمسائل محل اختلاف أو مسائل تتطلب نقاشًا مجتمعيًا وتخطيطًا دقيقًا لا محل له في الدستور (مثل طبيعة النظام التأميني أو نسبة الصرف على قطاع الصحة من الموازنة العامة أو حتى النص على حقوق المرضى بتفصيل)، إلا أن هذا المقترح يعتبر أكبر حجمًا من المقترحات السابقة. يرجع هذا لاتفاق المساهمين في كتابته على أن التجارب الدستورية للدول التي مرت بنقلات سياسية واجتماعية مشابهة للحالة المصرية والتي نجحت في تحقيق الأهداف المنشودة من ثوراتها وحراكها الشعبي، اجتمعت على البعد عن الاختصار الشديد في مواد الدستور وضرورة التحديد الواضح وغير القابل للتأويل في التزامات الدولة وحقوق مواطنيها. فدولة مثل جنوب أفريقيا أعدت دستورًا يوصف بأنه الأكثر تقدمية على مستوى العالم ويحتوى على باب ضخم خاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية ومنها الصحة. أما دستور البرازيل فمثله مثل الكثير من دول أمريكا اللاتينية التي حققت طفرة اجتماعية واقتصادية وسياسية في وقت قصير غطى الصحة بـ38 مادة في أكثر من 900 كلمة!
كما تقدم هذه الصياغة المقترحة التزامًا جديدًا للدولة بوضع أطر تشريعية ملائمة لتحديد الحد الأدنى من الحقوق الأساسية للمرضى وهي تشمل:
- حق متلقي الخدمة في ملف طبي شامل خاص به مع حقه في الاطلاع عليه في أي وقت.
- حق متلقي الخدمة في معرفة تفاصيل حالته الصحية وتفاصيل العلاج بما في ذلك العلاجات البديلة والأثر المترتب على ترك العلاج، وحق المريض أيضًا أن تصل إليه هذه المعلومات بطريقة يستطيع استيعابها.
- حق المتلقي في أخذ موافقته المستنيرة كشرط أساسي قبل أي تدخل طبي بعد توفير كل ما يلزمه من المعلومات عن العلاج الذي سيتلقاه حتى يستطيع اتخاذ قراره الواعي والمستند إلى علم بشأن هذا العلاج. وفي حالة عدم قدرة المريض على إصدار تلك الموافقة يجوز لوكيل عنه إصدارها نيابة عنه وتُستثنى من ذلك حالات الطوارئ.
- حق متلقي الخدمة في سرية المعلومات الطبية الخاصة به ولا يجوز التعدي عليها إلا بأمر قضائي أو فيما يضر بالصحة العامة وسلامة المجتمع وذلك على النحو الذي ينظمه القانون.
- حق متلقي الخدمة في الحصول على الرعاية المناسبة لحالته من الفريق المتخصص وذلك دون تمييز على أساس ديني أو طائفي أو سياسي أوجنسي.
ذلك بالاضافة إلى حق المريض في اختيار مقدمي الخدمات وحقه في تجنب الألم غير الضروري وفي المشاركة في مراقبة جودة الخدمات الصحية وحقه في الشكوى كما تُلزم المادة الأخيرة الدولة بتوفير الأطر القانونية اللازمة للتقاضي والحصول على التعويض المناسب في حالات الأخطاء المهنية والإهمال الطبي.
الصياغة المقترحة لمواد الصحة بالدستور
الحق في الصحة دون تمييز
تلتزم الدولة باحترام وحماية وتحقيق الحق في الصحة لجميع المواطنين عبر تنفيذ سياسات اجتماعية واقتصادية وتخصيص الموارد المالية التي تضمن خفض وتوزيع أعباء المرض وتوفير وإتاحة الخدمات الصحية بما يشمل الوقاية والعلاج والتوعية والمحددات الاجتماعية للصحة. وتلتزم الدولة بتأسيس مجلس أعلى مستقل للصحة يقوم بتحديد الأولويات الصحية ويضع السياسات العامة للصحة ويتابع تحقيقها من قبل الجهاز التنفيذي من خلال آليات المشاركة المجتمعية.
حماية تأمينية شاملة عادلة للجميع
تلتزم الدولة بتوفير حماية تأمينية اجتماعية شاملة لجميع المواطنين ضد مخاطر المرض تتكامل مستويات الخدمة من خلالها في إطار ترسيخ قيم التضامن والمساواة وتراعي في هذا النظام توزيع الأعباء المالية بشكل يتناسب مع تنوع احتياجات المواطنين وتوزيعهم الجغرافي وقدراتهم المادية، يعمل من خلال آليات تمويل ملائمة وواقعية وعادلة لضمان الجودة بغض النظر عن قدرة المواطنين على تحمل أعباء تكلفة هذه التغطية أو عن حالتهم الصحية.
الدولة تنظم وتراقب وتضمن الجودة والإتاحة
تلتزم الدولة بالتخطيط المناسب والتنظيم والاعتماد لكافة المنشآت ومقدمي الخدمات الصحية كما تشرف على تقديمها الخدمات بأعلى جودة متاحة وتجريم الامتناع عن تقديم خدمات الطوارئ للجميع بالمجان دون تمييز. كما تلتزم الدولة بمراقبة وتنظيم المنتجات والخدمات المتعلقة بصحة المواطنين وتقديم التشريعات اللازمة لذلك وتتخذ كافة التدابير لضمان الإتاحة والجودة للجميع.
أطر تشريعية لحقوق المرضى
يلتزم مقدمو الخدمات الصحية بحد أدنى من الحقوق الأساسية لمتلقي الخدمات والمرضى وعلى الدولة أن تضع الأطر التشريعية التي تضمن تحقيق تلك الحقوق، على أن تشمل الحق في المعلومات الخاصة بالحالة الصحية والخصوصية في ملف طبي شامل والموافقة المستنيرة قبل أي إجراء. كما تلتزم الدولة بتوفيرالأطر القانونية اللازمة لتحقيق حق متلقي الخدمة في الحصول على تعويض مادي مناسب وفي فترة زمنية ملائمة في حالات الأخطاء المهنية والإهمال الطبي.
[ينشر بالاتفاق مع المبادرة المصرية للحقوق الشخصية]